محمد البشروش محطم الأصنام كمال الرياحي. تونس

محمد البشروش بريشة الرسا م منصف الرياحيعرف الأدب التونسي  ما سمي ب”الثلاثي الرومنسي”  وهم : أبو القاسم الشابي ومحمد الحليوي ومحمد البشروش . ولئن اشتهر الشابي بانفتاحه على بلاد المشرق و انخراطه في جماعة أبولو   إلا أن الحليوي والبشروش ظل بريقهما محليا رغم قيمة ما قدماه من تجربة أدبية ونقدية. وتأتي  ذكرى ولادة البشروش الثانية بعد المائة في جو من الاحتقان السياسي في تونس  وكأن حظه العاثر يرافقه منذ المولد. فولد في افريل سنة 1911  وعاش بين الحربين وشهد الازمة الاقتصادية العالمية ليرحل سنة 1944و مازالت رحى  الحرب العالمية الثانية   دائرة لتأتي ذكرى مائويته في أجواء الثورة  التونسية سنة 2011   من ناحية وذكرى وفاة كاتب مكرس  اسمه محمود المسعدي فأهمل البشروش  وفوت التونسيون فرصة جديدة  للتقرب من هذه القامة الأدبية الكبيرة.

 

كان محمد البشروش كاتبا موسوعيا فنظم الشعر وكتب القصة والمقال الصحفي والمقال النقدي وأرخ للأدب التونسي  ونقل الأدب الغربي إلى العربية  وكان رائدا من رواد القصة القصيرة في تونس . ومن أشهر قصص ” محمد عبد الخالق” وهو الاسم المستعار الذي عرف به في الصحافة التونسية:” البرية” و”زوجة أحمد شرودة” و”علي العياري” و”من تكون هذه الساحرة” و” فنان”

ولكن قوته كانت في النقد أكثر من الابداع  كما كانت لرسائه مع الشابي ومحمد الحليوي أحد العتبات المهمة لقراءة أدب المرحلة وخاصة أدب الشابي الذي كان متعلقا به ويجله كبير الاجلال حتى أن صديقهما الحليوي كان يتهمه بتقليد الشابي حتى في اكتئابه وتوجعه وحيرته  الوجودية الدائمة.

مؤسس مجلة مباحث

في جانفي سنة 1938 أطلق البشروش العدد الأول من مجلته “مباحث” وهي مجلة تعنى بالأدب والفن والتاريخ والفلسفة وكتب في عددها الأول نخبة المشهد الثقافي التونسي وأولهم أبوالقاسم الشابي الذي وقع مقالته” الفن والنفس العربية”

عرفت المجلة صعوبات كبيرة في البداية فتوقفت عن الصدور الا انه البشروش بروحه السيزيفية أعاد اطلاقها سنة 1944 لتلتحق به نخبة جديدة من النقاد والمبدعين مثل محمود المسعدي والصادق ميزيغ  والرسام الشهير حاتم المكي  وهكذا تحولت المجلة من مشروع فردي يطغى عليه انتاج مؤسسها في نسختها الأولى إلى مشروع جامعي يلتف حوله عدد كبير من المثقفين التونسيين كما بين ذلك عبد الحميد سلامة في بحثه العمدة حول البشروش:”محمد البشروش حياته وآثاره”  

يقول سلامة:” استمرت المباحث في الصدور حافلة بالدراسات والبحوث والقصص والأشعار والأخبار الأدبية والعلمية والفنية المختلفة معبرة أحسن تعبير عن مدى نضج الحياة الأدبية ونشاطها في ذلك العهد….وقد أدت المباحث دورا خطيرا في تطور النهضة الأدبية بتونس عقب الحرب العالمية الثانيةوكانت أرقى مجلة عربية ظهرت بالبلاد التونسية.”

ورحل محمد البشروش في نفس العام لتعيش المجلة سنوات بعده بادارة محمود المسعدي قبل أن يؤسس “مجلة الحياة الثقافية” .

البشروش وتونسة الأدب

دعا  محمد البشروش  في جريدة “النهضة” سنة 1930 إلى انشاء أدب قومي تونسي خالص باسلوبه ومناخاته مقتديا  بدعوة بعض النخبة المصريين لأدب قومي مصري وقد لاقت تلك الدعوة هوى عند بعض الأدباء ورفضها البعض الآخر لكن البشروش الذي عرف بعناده تمسك بذلك الخيار واعتبره أحد أشكال المقاومة الحقيقية للمستعمر بابراز الخصوصية الثقافية للشعب التونسي وأبرز من أيده الشاعر محمد الحليوي . غير أن الفكرة اصطدمت بمعوقات  كثيرة أكبرها اللغة  واعتبر أن محاولة تمصيرها أو تونستها قد تؤذي الإسلام وقد تؤدي الى”القضاء على القرآن” وهنا دخلت النقاشات مرحلة السجالات حيث وقف  الكاتب زيد العابدين السنوسي معارضا لهذه الفكرة ووصفها كما يذكر  عبد الحميد سلامة ب”الشعبوية”.

وتمسك البشروش بحلم تونسة الادب وظل ينظر له ويعتبر أن التمسك بالأساليب القديمة اجرام في حق الأدب وأن على الأدب أن يكون ابن بيئته أسلوبا ومتنا .وانتصر بعد ذلك للكتابة بالعامية التي سبق أن كتب بها محمد العريبي وعلي الدوعاجي ووجدت عند  جماعة تحت السور  مناخا ملائما لترعرعها .

 

تحطيم الأصنام

اشتهر محمد البشروش بمعاركه الأدبية التي خاضها ضد الكتاب المكرسين في ذلك الوقت وهم  محمود بورقيبة وعبد الرزاق كاراباكة والطاهر القصار  فعلى اثر ما اقترفته  من جرم ، حسب تعبيره،جريدة “العالم الأدبي” في نشر نتيجة استفتائها حول اهم ثلاثة شعراء بتونس واختزال الادب التونسي في تلك الاسماء الباهتة والكلاسيكية شن البشروش هجوما لاذعا عليهم من خلال سلسلة من المقالات النقديمة متوعدا كل من هؤلاء الثلاثة بالتصفية الأدبية. أعادت  هذه الخصومات للأذهان تلك المساجلات والمعارك الأدبية في المشرق مثلما حدث  بين الرافعي والعقاد . وقد اعتمد البشروش في تلك المقالات أسلوبا  ساخرا  فبدا هازئا بخصومه داكا حصونهم معريا ضعف موهبتهم كاشفا عن أساليبهم غير الأخلاقية في  تلميع صورهم بالإعلام التونسي.

يقول في مفتتح حملته عليهم لائما شعبه على الانتصار لهؤلاء الكتاب:” آه من سخافة هذا الشعب المسكين الذي تناوبته الرزايا وران عليه الطغيان فأصبح ينخدع للترهات وكأنها حقائق ويعجب بالصور المتحركة وكأن لها شرايين تجري فيها دماء الحياة ويقدس الأصنام وكأنها الهة لا يؤتى من لدنها الزائف والباطل أبدا.”

واتهم الشعراء الثلاثة بانهم مارسوا نفس أساليب الأحزاب في الدعاية لأنفسهم  “فطافوا بالعرائض وفعلوا كل ما لا يستطيع أن يفعله انسان فكان النصر حليفهم والظفر في صفوفهم..”

لقد كان محمد البشروش  عصبيا وحاد الطباع وسريع الغضب يخاصم ويشن الحروب الأدبية على خصومه مؤمنا بأصدقائه المبدعين وخاصة الشابي الذي رفض البشروش كتابة مقدمة لديوانه الشهير” أغاني الحياة” على الرغم من الحاح الشابي على ذلك . فقد رأى  البشروش انه  سيكون أفضل للشابي أن يقدمه  أبو شادي مؤمنا أن شعر الشابي تجربة فنية تستحق شخصية أهم منه لتقديمها. كان لموت الشابي أثرا كبيرا على البشروش  ورغم ذلك ظل يعرف بتجربة صاحب” أغاني الحياة” حتى التحق به بعد سنوات قليلة.

يبقى السؤال الذي يطرح  في تونس اليوم : متى يقع  تجميع شتات هذه الذاكرة الثقافية المهددة بالضياع ؟ يذكر أن أول خبر وقع تداوله عن  محمد البشروش بعد الثورة  هو خبر احراق  دار الثقافة محمد البشروش بدار شعبان الفهري مسقط رأس الكاتب.

 

 

 ملاحظة:  صورة البشروش بريشة الفنان التونسي المهاجر منصف الرياحي وهي خاصة بهذا المقال.

أضف تعليق